فصل: تفسير الآيات (117- 118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد، أو لأن للآية سببًا آخر في النزول، فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن شيخًا من العرب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليًا ولم (أوقع) المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربًا وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله تعالى؟» فنزلت {وَمَن يُشْرِكْ بالله} شيئًا من الشرك، أو أحدًا من الخلق، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع، ولا يبعد أن يكون من أفراده {فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيدًا} عن الحق، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا {فَقَدْ ضَلَّ} إلخ، وفيما تقدم {فَقَدِ افترى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراءًا واختلافًا وجراءة عظيمة على الله تعالى، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابًا ولا عرفوا من قبل وحيًا ولم يأتهم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عز وجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدًا، ولذلك جاء بعد تلك {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء: 49] وقوله سبحانه: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} [النساء: 50] وجاء بعد هذه قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا}. اهـ.

.قال القرطبي:

وفي قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ردّ على الخوارج؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر.
وقد تقدّم القول في هذا المعنى.
وروى الترمذِيّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه الآية: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاءُ} قال: هذا حديث غريب.
قال ابن فُورَك: وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عُذب بالنار فلا مَحالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول؛ أو بابتداء رحمةٍ من الله تعالى.
وقال الضحاك: إن شيخًا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أُشرِك بالله شيئًا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاءُ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}: إثبات الغير في توهم ذرة من الإبداع عين الشِرْك، فلا للعفو فيه مساغ. وما دون الشرك فللعفو فيه مساغ، ومن توسَّل إليه سبحانه بما توهَّم من نفسه فقد أشرك من حيث لم يعلم. كلاّ، بل هو الله الواحد. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ}
والحق هنا يتكلم عن إنسان لم تحدث له توبة عن الشرك فيؤمن؛ لأن الإيمان يَجُبُّ ما قبله أي يقطع ما كان قبله من الكفر والذنوب التي لا تتعلق بحقوق الآخرين كظلم العباد بعضهم بعضا. ومن عظمة الإيمان أن الإنسان حين يؤمن بالله وتخلص النية بهذا الإيمان، وبعد ذلك جاءه قدر الله بالموت، فقد يعطيه سبحانه نعيما يفوق من عاش مؤمنا لفترة طويلة قد يكون مرتكبًا فيها لبعض السيئات فينال عقابها.
مثال ذلك «مخيريق» فحينما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد قال مخيريق لليهود: ألا تنصرون محمدًا والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم فقالوا: اليوم يوم سبت فقال: لا سبت. وأخذ سيفه ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة (أي لا يستطيع أن يقوم معها) فلما حضره الموت قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء. فلم يصل في حياته ركعة واحدة ومع ذلك نال مرتبة الشهيد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مخيريق سائق يهود وسلمان سائق فارس وبلال سائق الحبشة».
وسبحانه يبلغنا هنا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ولله المثل الأعلى نرى في حياتنا مجتمعًا قد تقوم فيه ثورة أو انقلاب، ونجد قادة الثورة أو الانقلاب يرون واحدًا يفعل ما شاء له فلا يقتربون منه إلى أن يتعرض للثورة بالنقد أو يحاول أن يصنع انقلابا، هنا تتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، فما بالنا بالذي يخرج عن نطاق الإيمان كلية ويشرك بالله؟ سبحانه لا يغفر ذلك أبدًا، ولكنه يغفر ما دون ذلك، ومن رحمة الله بالخلق أن احتفظ هو بإرادة الغفران حتى لا يصير الناس إلى ارتكاب كل المعاصي. ولكن لابد من توبة العبد عن الذنب. ونعلم أن العبد لا يتم طرده من رحمة الله لمجرد ارتكاب الذنب. ونعلم أن هناك فرقًا بين من يأتي الذنب ويفعله ويقترفه وهو يعلم أنه مذنب وأن حكم الله صحيح وصادق، لكن نفسه ضعفت، والذي يرد الحكم على الله. وقد نجد عبدًا يريد أن يرتكب الذنب فيلتمس له وجه حل، كقول بعضهم: إن الربا ليس حرامًا. هذا هو رد الحكم على الله. أما العبد الذي يقول: إنني أعرف أن الربا حرام ولكن ظروفي قاسية وضروراتي ملحة. فهو عبد عاصٍ فقط لا يرد الحكم على الله، ومن يرد الحكم على الله هو- والعياذ بالله- كافر.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ولننتبه إلى أن بعض المستشرقين الذين يريدون أن يعيثوا في الأرض فسادًا.
ولكنهم بدون أن يدروا ينشرون فضيلة الإسلام، وهم كما يقول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ** أتاح لها لسان حسود

وحين يتكلمون في مثل هذه الأمور يدفعون أهل الإيمان لتلمس وجه الإعجاز القرآني وبلاغته.
إنهم يقولون: بَلَّغ محمد قومه {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ} لكن يبدو أن السهو قد غلبه فقال في آية أخرى: {قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]
هم يحاولون نسبة القرآن إلى محمد لا إلى الله. ويحاولون إيجاد تضارب بين الآيتين الكريمتين. ونقول ردًا عليهم: إن الواحد منكم أمي ويجهل ملكة اللغة، فلو كانت اللغة عندكم ملكة وسليقة وطبيعة لفهم الواحد منكم قوله الحق: {قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]
وكان الواجب أن يفهم الواحد منكم أن الشرك مسألة أكبر من الذنب؛ فالذنب هو أن يعرف الإنسان قضية إيمانية ثم يخالفها، ولكن المشرك لا يدخل في هذا الأمر كله؛ لأنه كافر في القمة. ولذلك فلا تناقض ولا تعارض ولا تخالف بين الآيتين الكريمتين. والمستشرقون إنما هم قوم لا يفقهون حقيقة المعاني القرآنية.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا}.
والمشرك مهما أخذ من متع لحياته فحياته محدودة، فإن بقيت له المتع فلسوف يتركها، وإن لم تبق له المتع فهي تخرج منه. إذن، هو إما تارك للمتع بالموت، أو المتع تاركة له بحكم الأغيار، فهو بين أمرين: إمّا أن يفوتها وإمّا أن تفوته. وهو راجع إلى الله، فإذا ما ذهب إلى الله في الآخرة والحساب، فالآخرة لا زمن لها ولذلك ما أطول شقاءه بجريمته، وهذا ضلال بعيد جدًا. أما الذي يضل قليلًا فهو يعود مرة أخرى إلى رشده. ومن المشركين بالله هؤلاء الذين لا يجادلون في ألوهية الحق ولكنهم يجعلون لله شركاء. وهناك بعض المشركين ينكرون الألوهية كلها وهذا هو الكفر. فهناك إذن مشرك يؤمن بالله ولكن يجعل له شركاء.
ولذلك نجد أن المشركين على عهد رسول الله يقولون عن الأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر: 3]
ولو قالوا: لا نذبح لهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، مثلا، لكان من الجائز أن يدخلوا في عبادة الله، ولكنهم يثبتون العبادة للأصنام؛ لذلك لا مفر من دخولهم في الشرك. ويقول سيدنا إبراهيم عن الأصنام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]
إنه يضع الاستثناء ليحدد بوضوح قاطع ويقول لقومه:
إن ما تعبدونه من الأصنام، كلهم عدو لي، إلا رب العالمين. كأن قوم إبراهيم كانوا يؤمنون بالله ولكن وضعوا معه بعض الشركاء. ولذلك قال إبراهيم عليه السلام عن الله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 78- 79]
إذن الشرك ليس فقط إنكار الوجود لله بل قد يكون إشراكًا لغير الله مع الله. ولأن من يعبدونه ويدعونه في مصائبهم: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا...} اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)}
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: دعاني معاوية فقال: بايع لابن أخيك. فقلت: يا معاوية {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا} فأسكته عني.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {نوله ما تولى} من آلهة الباطل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوّة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر فيما خالفها، من اقتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وصلاه جهنم وساءت مصيرًا.
وأخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدًا، ويد الله على الجماعة، فمن شذ شذَّ في النار».
وأخرج الترمذي والبيهقي عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجمع الله أمتي. أو قال: هذه الأمة على الضلالة أبدًا، ويد الله على الجماعة». اهـ.

.تفسير الآيات (117- 118):

قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما كان المنافقون هم المقصودين بالذات بهذه الآيات، وكان أكثرهم أهل أوثان؛ ناسب كل المناسبة قوله معللًا لأن الشرك ضلال: {إن} أي ما {يدعون} وما أنسب التعبير لعباد الأوثان عن العبادة بالدعاء إشارة إلى أن كل معبود لا يدعي في الضرورات فيسمع، فعابده أجهل الجهلة.